حـقـائق مـصـر HAKAEK-MISR

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
حـقـائق مـصـر HAKAEK-MISR

حقائق وأسرار ووثائق حروب مصر مع إسرائيل.. من ألعدوان ألثلاثي 1956 حتي حرب ألعبور ألخالدة 6 أكتوبر 1973


    الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي دور الجارديان والأوبزرفر في فضح أخطر أزمة سياسية

    د. يحي ألشاعر
    د. يحي ألشاعر
    Admin


    المساهمات : 318
    تاريخ التسجيل : 06/10/2018
    الموقع : http://www.oocities.org/yahia_al_shaer/

    الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي دور الجارديان والأوبزرفر في فضح أخطر أزمة سياسية Empty الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي دور الجارديان والأوبزرفر في فضح أخطر أزمة سياسية

    مُساهمة من طرف د. يحي ألشاعر الخميس ديسمبر 20, 2018 9:01 pm

    الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي
    دور الجارديان والأوبزرفر في فضح أخطر أزمة سياسية




    حتي الأن ، كنت أنشر العديد من الحقائق عن "الوجه الآخر للميدالية" ....


    ويعتقد البعض ، أن هذا الوجه الأخر ما هو إلا تعبير عن "الجهة المصرية" والعربية فقط من ميدالية أحداث وحرب ومؤامرة العدوان الثلاثي ، بينما الواقع يتطلب ويعني أيضا ، ضرورة أن نأخذ في العبران ، جميع ما يمت إلي نشاطات معارضة لهذه الحرب ...


    بذلك ، يتكون عندنا صورة كاملة عن الأحداث .. وليس عن "وجهة نظر واحدة" ...

    ستعطينا هذه الحيادية ،القدرة علي تقييم "الأحداث" ... والأشخاص .... بل إلي أن نعدل فكرتنا عن "الشعب البريطاني" ... و "أحيانا الفرنسي" ...


    لم يكن إعلان "أنتوني إيدن" الحرب علي مصر ، يتسم بتأييد مطلق من "شعب بريطانيا" ... فقامت المظاهرات وكان ميدات ترافلجار مركزا للعديد من الخطب النارية التي تعارض الوزارة البريطانية في قرارها ...


    ولا يغيب عن البال ، أن العلاقات بين كل من الشعبين "المصري" والبريطاني" ... تتسم بالعديد من الروابط العائلية والثقافية والأجتماعية ...


    ولا ننسي ، أن "بريطانيا" .. كانت ولا زالت تعني للعديد منا ... الكثير من النواحي الثقافية والأقتصادية والعسكرية ... فلا يمكن أن ينقضي ستة وسبعون عام من البقاء في مصر ، دون أن تترك ورائهم آثارهم العميقة


    وكما كان الحال في مصر ... لعبت الصحافة البريطانية دورا أساسيا هاما في "توضيح" الأحداث أو " تكتيل " المشاعر لتأييد الحرب ... بينما لعبت الصحافة المعارضة دورا هاما في توغية الشعب ومعارضة " الحكومة " البريطانية ، وهو ما كنا نستفيد منه في مصر


    وقد نشر الأستاذ رياض نجيب الريّس عدة مقالات ... بصفته شاهد عيان علي ألأحداث في العاصمة البريطانية ، واعتمد للدقة التاريخية علي مجموعات الصحف البريطانية في تلك الفترة، الموجودة في المكتبة البريطانية العامة. وعلي آخر كتاب صدر عن السويس في أغسطس 2006 بقلم الصحافي والكاتب إنجليزي، جيمس موريس الذي كان يعمل مراسلاً لعدة صحف بريطانية، منها «الجارديان» و«التايمز» في الشرق الأوسط، خلال الخمسينيات والستينيات، وأمضى سنوات عدة في معظم البلدان العربية.


    سأنشر الحلقات "الخمس " التي كتبهم الأستاذ رياض نجيب ... كشاعد علي الأحداث في العاصمة البريطانية ، إذ أن قصة السويس هي أيضا قصة الصحافة ... وقد سبق لي وتطرقت بشكل "مختصر" للصحافة المصرية ودورها ودور صوت العرب خلال أيام "حرب 1956" وسأتطرق مرة أخري فيما بعد وبشكل أكثر تفصيلا ، للصحافة المصرية أيضا


    وسيساعد فيلم بي بي سي الذي نشرت رابطته ، علي تفهم وتتبع العديد من الحداث التي ترد في هذه السلسلة من مقالات الأستاذ رياض نجيب



    د. يحي الشاعر


    خمسون عاماً على حرب السويس (1):




    الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي


    دور «الغارديان» و«الأوبزرفر» في فضح أخطر أزمة سياسية




    بقلم: رياض نجيب الريّس



    & عبر جريدة محدودة الانتشار في حينه كانت تصدر خارج العاصمة البريطانية، تعرفت قبل نصف قرن على قضيتين أساسيتين تلازمتا زمنياً وشكلتا بالتناوب قضايا ساخنة: تأميم قناة السويس و«العدوان الثلاثي» ــــ كما اعتدنا تسميته في العالم العربي ــــ الذي تلاه على مصر. ومن جهة ثانية انتفاضة بلاد المجر على النظام الشيوعي فيها وقمع الاتحاد السوفياتي ثورة المجريين بعنف لا مثيل له على مرأى من العالم.



    هذه الجريدة هي «المانشستر غارديان» التي كانت تصدر من مانشستر، العاصمة التجارية والصناعية في شمال إنكلترا، وتطبع هناك. وكانت تُصنف بأنها جريدة محلية من الأقاليم provincial على الرغم من أنها كانت توزع في لندن. غير أن تأثيرها السياسي ونفوذها الدولي كانا أهم وأبعد من أرقام توزيعها. ففي منتصف الخمسينيات، كان ثلثا قراء هذه الجريدة من خارج مانشستر، وبلغ توزيعها 200.000 نسخة يومياً. لكن هذه الجريدة غير العادية أدّت دوراً سياسياً (أساسياً إن لم يكن خطيراً) خلال أزمة السويس من بدايتها حتى نهايتها بحكم تميّز مواقفها المبدئية وتغطيتها المهنية الراقية ومعارضتها لحكومة المحافظين. بالإضافة إلى وجود أقنية اتصال خاصة بين وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس وبين رئيس تحريرها ا.ب. وادزورث. وكانت ملكية «المانشستر غارديان» تعود إلى مؤسسة عائلية لإحدى أسر شمال إنكلترا التجارية، قبل أن تتحول إلى شركة مساهمة كبرى وتنتقل إلى العاصمة في السبعينيات وتسقط اسم مانشستر من عنوانها لتصبح «الغارديان» فقط، إحدى أهم كبريات الصحف الليبيرالية البريطانية اليوم. باختصار، لم تكن جريدة «إقليمية محلية» عادية. كانت واحدة من أهم صحف بريطانيا في ذلك الزمان.



    كان وادزورث، رئيس التحرير منذ العام 1944، مريضاً بالسرطان وعلى فراش الموت في صيف العام 1956، إبان بدايات أزمة السويس. وكان يُعدّ محرر الشؤون الخارجية في جريدته، الشاب أليستير هثرينغتون البالغ من العمر 36 عاماً، الذي سبق أن كان ضابطاً في سلاح الدبابات في الحرب العالمية الثانية، لخلافته رئيساً للتحرير. وكان كلاهما وادزورث وهثرينغتون، قد رسما خطاً لـــ «الغارديان» معارضاً لسياسة حكومة المحافظين البريطانية تجاه أزمة السويس، مما قاد الجريدة إلى دور صدامي خطير في وجه حكومة السير أنطوني إيدن أدى في النهاية إلى إسقاطها. ولم يحسب الرجلان حساب الخسائر المادية التي ستصيب الجريدة من جراء هذا الموقف السياسي المعارض. وتوفي وادزورث في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1956، في اليوم الذي بدأت فيه القوات البريطانية والفرنسية المشتركة هجومها على مصر من قبرص.



    كانت تغطية «الغارديان» لأحداث أزمة السويس عدائية، ومزعجة، إلى درجة أن رئيس الوزراء السير أنطوني إيدن حاول منع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) من نقل ما تكتبه «الغارديان» عن الأزمة في أقوال الصحف التي تذيعها كل يوم. كما منع مراسل الجريدة الديبلوماسي ريتشارد سكوت من التحدث في الإذاعة. وطرح إيدن مشروع قانون خطير يقضي باستيلاء الحكومة على الــ بي.بي.سي وإلغاء استقلاليتها القانونية إذا تمّ غزو مصر. إلّا أن المشروع لم يتحقق.



    غير أن أزمة السويس كانت قد بدأت تتصاعد منذ أواخر تموز/ يوليو من العام 1956، بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القناة. وصدرت أول افتتاحية لــ «الغارديان» كرد فعل على الأزمة (في زمن كان قرّاء الصحف فيه يقبلون على قراءة الافتتاحيات قبل الأخبار) تدعو الحكومة إلى التعقل، وعدم الاستخفاف بقدرات عبد الناصر، قائلة أن الغرب لا يستطيع استعمال القوة العسكرية وسيلة لضمان تدفق النفط. ووقّع رئيس تحرير «الغارديان»، الشاب الجديد، قبل أن يتسلم منصبه رسمياً، مقالاً ضد إنذار بريطانيا وفرنسا المشترك بالهجوم على مصر، إذا لم تنسحب قواتها من منطقة القناة، رافضاً التهديدات بالحرب. وبينما كانت الافتتاحية تكتب كانت إسرائيل، الشريك السري في حينه في المشروع الإنكلو ــــ فرنسي لمنع تأميم قناة السويس، تتقدم الهجوم على مصر. وكان تاريخ الافتتاحية 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 .



    خلال أيام من صدور هذه الافتتاحية، تلقى هثرينغتون أول اتصال عبر قنواته الخلفية من مراسله في واشنطن ماكس فريدمان، الذي كانت له صلات خاصة بوزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس. وصعق رئيس التحرير بمحتوى الرسالة التي جاءته، وفيها أن دالاس قد تبلغ من سفيره في لندن، بأن الحكومة البريطانية تستعد لشن الحرب على مصر. انطلاقاً من هذه المعلومة بدأت «الغارديان» محاولة تغطية الاستعدادات السرية للحرب، وقد أدركت أن الولايات المتحدة لن تؤيد فكرةالهجوم على مصر. وحاولت «الغارديان» التحايل في تغطيتها تجنباً للوقوع تحت طائلة القوانين البريطانية التي كانت ـــ وما زالت إلى اليوم ــــ تمنع الصحافة البريطانية من نشر ما تعدّه الحكومة أسراراً عسكرية أو وطنية. وواصل المراسل النشط فريدمان من واشنطن كتابة الرسائل السرية إلى رئيس تحريره، وأهمها رسالة في 10 آب/ أغسطس لخص فيها شعور دالاس مفادها: «هناك استعدادات لعمل عسكري ضد مصر من بريطانيا وفرنسا، وإنه (أي دالاس) يشعر بأنه من الصعب أخلاقياً الدفاع عن هذا العمل الذي لن يتفهمه العالم، والذي سيؤدي إلى تحطيم الأمم المتحدة إذا تم التدخل المسلح... «إنها حالة خطرة جداً جداً» حسب قول دالاس.



    & & & لم يقف إلى صف «الغارديان» في هجومها العنيف على التدخل العسكري ضد مصر سوى «الأوبزرفر». وكانت «الأوبزرفر» صحيفة أسبوعية تصدر صباح كل أحد، تمثل التيارات الليبيرالية في السياسة البريطانية والتوجهات الحرة في الثقافة والفنون، معادية للمحافظين ومتعاطفة مع شعوب المستعمرات. وكانت تمثل الوجه التقدمي لصحافة الأحد مقابل الوجه الآخر المحافظ لـ «الصنداي تايمز». وكان صاحب «الأوبزرفر» ورئيس تحريرها دافيد أستور، ابن أول امرأة (ماري أستور) تدخل مجلس العموم البريطاني في الثلاثينيات، بعدما مُنحت النساء في بريطانيا حق الانتخاب والترشيح. وكانت «الأوبزرفر» مملوكة من شركة عائلية خاصة لآل أستور، قبل أن تباع لعدة جهات ثم تستقر اليوم كجزء من شركة «الغارديان» الجديدة، ووجها المماثل يوم الأحد.

    وانقسمت الصحافة البريطانية إلى فريقين واضحين. فريق مع حكومة إيدن في استعمالها القوة لاستعادة القناة من عبد الناصر، وفريق ضد الحكومة وضد إشعال حرب من أجل القنال. على رأس الفريق الأول كانت «التايمز» ومعها «الإكسبرس» و«الميل» و«السكنتس» و«التلغراف» و«إيفنينغ نيوز» و«إيفنينغ ستاندرد» و«الصنداي تايمز» و«الصنداي اكسبرس». أما الفريق الثاني المعادي لحكومة إيدن، فكان إلى جانب «الغارديان» و«الأوبزرفر»، مؤلفاً من «الميرور» العمالية، «نيوز كرونيكل» الليبيرالية «مورنينغ ستار» الشيوعية، «بيبول» الشعبوية. لكن «المانشستر غارديان» و«الأوبزرفر» وحدهما استمرتا في معارضة التدخل العسكري بلا هوادة طوال فترة الأزمة. وانضمت إليهما فيما بعد «الإيكونوميست»، المجلة الأسبوعية الواسعة النفوذ والواسعة الانتشار اليوم في الولايات المتحدة، في أوضح موقف مباشر ضد الهجوم العسكري البريطاني على مصر، في افتتاحية لها صدرت في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر.



    وكان موقف الجريدتين «الغارديان» و«الأوبزرفر» المعاديتين لسياسة حكومة إيدن قد عرّض الجريدتين لضغوط اقتصادية من أطراف عدة، أدت إلى قطع عدد كبير من الاشتراكات ووقف الحملات الإعلانية فيهما، وعزوف عدد من القرّاء عن شراء الجريدتين. وأصبح الوضع المادي لكل منهما حرجاً، بالرغم من انضمام أعداد من القرّاء الجدد الذين لم يكونوا من زبائنهما.

    كانت المفاجأة في الأوساط الصحافية، هي انقسام صحافة المحافظين. وأهمها مجلة «سبكتاتور» الأسبوعية المحافظة اليمينية، المنافسة لمجلة «نيو ستيتسمان» الأسبوعية العمالية اليسارية، التي كان يرأس تحريرها كينغسلي مارتن، أحد أشهر صحافيي إنكلترا في ذلك الوقت. وكان أيان غيلمور، الذي أصبح وزيراً فيما بعد في حكومة مارغريت تاتشر، صاحب ورئيس تحرير «سبكتاتور»، قد سارع في أول عدد صدر من مطبوعته بعد الهجوم على القناة، إلى كتابة افتتاحية يدين فيها الاعتداء وينذر رئيس الوزراء أنطوني إيدن بأنه سيواجه اتهامات بالخداع لاعتداء جائر، إذا فشل الهجوم العسكري. وكان موقف غيلمور أول خروج عن الصف.

    بعد موقف غيلمور في «سبكتاتور»، أخذ عدد من السياسيين والديبلوماسيين المحافظين من الصف الثاني يستقيلون من الوزارة ومن الخارجية اعتراضاً على مخططات إيدن، بدءاً بوزيري الدولة أنتوني تاتينغ من الخارجية وإدوارد بويل من المالية مروراً بسواهما من أعضاء السلك الديبلوماسي. واتضح أن موقف المحافظين لم يكن متماسكاً وخاصة كريستوفر سومز وزير دولة لشؤون الطيران، والأهم صهر السير ونستون تشرشل زعيم المحافظين ورئيس الحكومة السابق، الذي أبدى شكوكه في موقف إيدن ورفض دعوة عمه تشرشل إلى تأييد إيدن علناً. علماً أن تشرشل نفسه كان له اعتراضات على خطة إيدن. وكان راندولف تشرشل، ابن ونستون، المعادي لإيدن، من كتّاب «سبكتاتور».



    وسط هذه الأجواء المرتبكة داخل المحافظين، الحزب الأكثر تشتتاً، تولى هارولد ماكميلان الحكم، فتحول من أحد الصقور إلى كبير الحمائم، وبدأ عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية، التي قال عنها أيان غيلمور: «إن ثورة العراق في تموز/ يوليو 1958 واغتيال الأسرة المالكة العراقية في بغداد كانا المؤشر الأكيد على انسحاب بريطانيا النهائي من الإمبراطورية. بعدها، وبسبب السويس، جرت عملية التسلم والتسليم بين بريطانيا والولايات المتحدة، لتتربع واشنطن على عرش إمبراطورية جديدة ورثتها، لم تعد لندن قادرة على حملها».



    وظل أيان غيلمور، طوال حياته الصحافية والسياسية، من المحافظين المعتدلين المحسوبين من أصدقاء الشرق الأوسط والمتفهمين لظروفه.



    & & & مقابل «الغارديان» كانت «التايمز» التي أدت، بطريقتها الخاصة، دوراً أساسياً في أزمة السويس. فكان إيدن يجتمع باستمرار مع رئيس تحريرها السير وليم هايلي ويعطيه من المعلومات والأسرار ما لا يعرفه معظم وزرائه. وكان هايلي وجريدته يؤيدان في بداية الأزمة إيدن وسياسته في أزمة السويس، لكنه سرعان ما ابتعد عن إيدن، عندما لم يعد رئيس الحكومة البريطانية يتقبل أي موقفحيادي لا يدعم سياسته مباشرة. وتوقفت اجتماعات الرجلين. وابتعد هايلي عن إيدن، ولم تعد «التايمز» تعبّر أو تدافع عن سياسة «داونينغ ستريت» ومواقفه، وعمَّ الفتور بين الجهتين حتى سقوط إيدن، وكان هذا الفتور من التقاليد «الجنتلمان» بين الصحافة والسياسيين في تلك الأيام، من غير أن تنتقل العلاقة من حالة التأييد إلى حالة العداء السافر.



    وكانت افتتاحيات دافيد أستور في «الأوبزرفر» الأعنف والأقوى ضد الإنذار البريطاني ــــ الفرنسي المشترك لمصر، وضد العمل العسكري، حتى أصبحت مقالاته توزع في التظاهرات التي كانت تنظم في حينه ضد العدوان. في ذلك الوقت، كانت صفحات «الغارديان» و«التايمز» مسرحاً لنقاش مستفيض حول قانونية الموقف البريطاني وحججه في تأميم القناة، وحول شرعية التهديد العسكري بالتدخل. ولم يكن الرأي العام البريطاني قد شهد انقساماً بهذا الشكل منذ أيام أزمة ميونيخ في العام 1938 (التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية)، ولم يكتف المؤيديون لحكومة إيدن والتدخل البريطاني بالضغوط الاقتصادية على «الأوبزرفر» و«الغارديان»، بل أخذوا يقاطعون مراسلي الجريدتين في الاجتماعات والندوات التي كانوا يعقدونها ليمنعوا تغطيتهما، ويتهمونهما «بالخيانة» لأنهما لا تؤيدان «أولادنا بالكاكي» ــــ أي الجيش البريطاني.



    وتصاعد العداء للجريدتين وازداد نفور القرّاء المحافظين منهما، واتُّهمت «الغارديان» علناً بالخيانة و«الأوبزرفر» بالتجديف. وعلى الرغم من المقاطعة الإعلانية ارتفع قليلاً توزيع الجريدتين. لكن الضرر كان على المدى البعيد قد وقع.



    & & &



    هنا حدثت ثلاثة أمور صحافية أدّت دوراً مصيرياً في أزمة السويس:



    1 ـــ إزاء تطور أحداث السويس يوماً بعد يوم، استعانت «الأوبزرفر» بدينغل فوت، المحامي والقانوني الضليع والنائب السابق عن حزب الأحرار في مجلس العموم (وشقيق مايكل فوت، زعيم حزب العمال في سنوات لاحقة والكاتب في صحيفة «تريبيون» اليسارية حينها، وأيضاً شقيق هيوفوت حاكم قبرص ومندوب بريطانيا باسم اللورد كارادون في الأمم المتحدة فيما بعد). وكانت افتتاحية دينغل فوت من أعنف ما كتب في إدانة احتيال سياسة حكومة إيدن وعدم شرعيتها وتواطؤها. وهاج نواب حزب المحافظين في مجلس العموم وماجوا، وأدانوا كاتبها واتهموا الجريدة وصاحبها بالخيانة. ودخلت هذه الافتتاحية، التي كانت سبباً في تقويض حكومة إيدن فيما بعد، تاريخ حكاية السويس.



    2 ـــ كان لــ«الغارديان» مراسل في الشرق الأوسط اسمه جيمس موريس(**) (اشتهر كثيراً فيما بعد) بعث من قبرص رسالة نشرتها الجريدة في صدر صفحتها الأولى في 20 تشرين الثاني/نوفمبر يؤكد فيها أن فرنسا، والطيارين الفرنسيين بالذات، أدّت دوراً أساسياً في التواطؤ مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وروى موريس على لسان الطيارين الفرنسيين الذين التقاهم في مطار القاعدة العسكرية البريطانية في قبرص، كيف كانوا يهاجمون المصريين في سيناء وهم يطيرون فوق الأراضي الإسرائيلية ويرمون المؤن والذخائر للإسرائيليين فوق سيناء. ويقول موريس في رسالته لــ«الغارديان» إن الطيارين الفرنسيين هم الذين كانوا يقصفون بالنابالم، وبدقة متناهية، المركبات والآليات المصرية المحملة بالعتاد والجنود، والتي رآها تحترق في الصحراء. وعزا موريس انتصار إسرائيل في حرب سيناء إلى دور الطيران الفرنسي.



    لكن سرعان ما نفى وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشي ديان ما ذكره موريس، كما نفت وزارتا الدفاع والخارجية لكل من فرنسا وإسرائيل هذه المعلومات. وكانت «الغارديان» أول من أشار علناً وبوضوح إلى التواطؤ البريطاني ـــ الفرنسي مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وقد نفاه إيدن ـــ كاذباً ـــ أمام مجلس العموم في 20 كانون الأول/ديسمبر بقوله: «ليس هناك معرفة سابقة بأن إسرائيل ستهاجم مصر».



    3 ـــ الأمر الثالث، والذي جاء نتيجة للفتور بين «التايمز» وإيدن لوقوفها على الحياد، أنها نشرت خبراً هز صدقية إيدن، مفاده أن رئيس الحكومة البريطاني حاول إقناع كل من الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية بإتلاف نسخ الاتفاق المكتوب معها والموقع في «سيفر» بباريس، وينص على تواطؤ الثلاثة في العدوان على مصر، وكيف رفضت كل من باريس وتل أبيب طلب لندن.

    & & &



    يروي أحد مؤرخي الصحافة البريطانية، أن لورنس سكوت، مدير إدارة «المانشستر غارديان» دخل على هثرينغتون، رئيس التحرير، حاملاً أخباراً سيئة عن هبوط التوزيع وغياب الإعلان نتيجة لموقف الجريدة السياسي. وبعدما أعطى مدير الإدارة الكثير من الأرقام عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في الجريدة، التفت إلى رئيس التحرير وقال له: أتمنى أن لا يؤثر هذا كله فيك، فتضطر إلى تغيير سياسة الجريدة. رأيك يجب أن يبقى حراً لتبقى الجريدة مؤثرة وحرة، مهما كان الثمن. القراء يعودون والإعلان يعود. لكن الحرية ستفقدها إلى الأبد إذا فرّطت فيها! &




    الحلقة المقبلة:


    أسرار التواطؤ بين


    بريطانيا وفرنسا وإسرائيل



    هوامش



    (**) جيمس موريس صحافي وكاتب إنكليزي، كان مراسلاً لعدة صحف بريطانية، منها «الغارديان» و«التايمز» في الشرق الأوسط، خلال الخمسينيات والستينيات، وأمضى سنوات عدة في معظم البلدان العربية. له عدّة مؤلفات أهمها كتاب «سوق سلوقيا» الصادر في مطلع الستينيات عن العالم العربي، وثلاثية «وداعاً للأبواق» عن سقوط الأمبراطورية البريطانية. تحول اثر عملية جراحية إلى امرأة في السبعينيات وغيّر اسمه من جيمس إلى جان. وكان قبل ذلك متزوجاً وله أولاد. وألّف عدداً من كتب الرحلات والتاريخ.



    اقتباس:

    خمسون عاماً على حرب السويس (1):




    الصحافة البريطانية من تأميم القناة إلى العدوان الثلاثي


    دور «الغارديان» و«الأوبزرفر» في فضح أخطر أزمة سياسية




    بقلم: رياض نجيب الريّس



    & عبر جريدة محدودة الانتشار في حينه كانت تصدر خارج العاصمة البريطانية، تعرفت قبل نصف قرن على قضيتين أساسيتين تلازمتا زمنياً وشكلتا بالتناوب قضايا ساخنة: تأميم قناة السويس و«العدوان الثلاثي» ــــ كما اعتدنا تسميته في العالم العربي ــــ الذي تلاه على مصر. ومن جهة ثانية انتفاضة بلاد المجر على النظام الشيوعي فيها وقمع الاتحاد السوفياتي ثورة المجريين بعنف لا مثيل له على مرأى من العالم.



    هذه الجريدة هي «المانشستر غارديان» التي كانت تصدر من مانشستر، العاصمة التجارية والصناعية في شمال إنكلترا، وتطبع هناك. وكانت تُصنف بأنها جريدة محلية من الأقاليم provincial على الرغم من أنها كانت توزع في لندن. غير أن تأثيرها السياسي ونفوذها الدولي كانا أهم وأبعد من أرقام توزيعها. ففي منتصف الخمسينيات، كان ثلثا قراء هذه الجريدة من خارج مانشستر، وبلغ توزيعها 200.000 نسخة يومياً. لكن هذه الجريدة غير العادية أدّت دوراً سياسياً (أساسياً إن لم يكن خطيراً) خلال أزمة السويس من بدايتها حتى نهايتها بحكم تميّز مواقفها المبدئية وتغطيتها المهنية الراقية ومعارضتها لحكومة المحافظين. بالإضافة إلى وجود أقنية اتصال خاصة بين وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس وبين رئيس تحريرها ا.ب. وادزورث. وكانت ملكية «المانشستر غارديان» تعود إلى مؤسسة عائلية لإحدى أسر شمال إنكلترا التجارية، قبل أن تتحول إلى شركة مساهمة كبرى وتنتقل إلى العاصمة في السبعينيات وتسقط اسم مانشستر من عنوانها لتصبح «الغارديان» فقط، إحدى أهم كبريات الصحف الليبيرالية البريطانية اليوم. باختصار، لم تكن جريدة «إقليمية محلية» عادية. كانت واحدة من أهم صحف بريطانيا في ذلك الزمان.



    كان وادزورث، رئيس التحرير منذ العام 1944، مريضاً بالسرطان وعلى فراش الموت في صيف العام 1956، إبان بدايات أزمة السويس. وكان يُعدّ محرر الشؤون الخارجية في جريدته، الشاب أليستير هثرينغتون البالغ من العمر 36 عاماً، الذي سبق أن كان ضابطاً في سلاح الدبابات في الحرب العالمية الثانية، لخلافته رئيساً للتحرير. وكان كلاهما وادزورث وهثرينغتون، قد رسما خطاً لـــ «الغارديان» معارضاً لسياسة حكومة المحافظين البريطانية تجاه أزمة السويس، مما قاد الجريدة إلى دور صدامي خطير في وجه حكومة السير أنطوني إيدن أدى في النهاية إلى إسقاطها. ولم يحسب الرجلان حساب الخسائر المادية التي ستصيب الجريدة من جراء هذا الموقف السياسي المعارض. وتوفي وادزورث في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1956، في اليوم الذي بدأت فيه القوات البريطانية والفرنسية المشتركة هجومها على مصر من قبرص.



    كانت تغطية «الغارديان» لأحداث أزمة السويس عدائية، ومزعجة، إلى درجة أن رئيس الوزراء السير أنطوني إيدن حاول منع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) من نقل ما تكتبه «الغارديان» عن الأزمة في أقوال الصحف التي تذيعها كل يوم. كما منع مراسل الجريدة الديبلوماسي ريتشارد سكوت من التحدث في الإذاعة. وطرح إيدن مشروع قانون خطير يقضي باستيلاء الحكومة على الــ بي.بي.سي وإلغاء استقلاليتها القانونية إذا تمّ غزو مصر. إلّا أن المشروع لم يتحقق.



    غير أن أزمة السويس كانت قد بدأت تتصاعد منذ أواخر تموز/ يوليو من العام 1956، بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القناة. وصدرت أول افتتاحية لــ «الغارديان» كرد فعل على الأزمة (في زمن كان قرّاء الصحف فيه يقبلون على قراءة الافتتاحيات قبل الأخبار) تدعو الحكومة إلى التعقل، وعدم الاستخفاف بقدرات عبد الناصر، قائلة أن الغرب لا يستطيع استعمال القوة العسكرية وسيلة لضمان تدفق النفط. ووقّع رئيس تحرير «الغارديان»، الشاب الجديد، قبل أن يتسلم منصبه رسمياً، مقالاً ضد إنذار بريطانيا وفرنسا المشترك بالهجوم على مصر، إذا لم تنسحب قواتها من منطقة القناة، رافضاً التهديدات بالحرب. وبينما كانت الافتتاحية تكتب كانت إسرائيل، الشريك السري في حينه في المشروع الإنكلو ــــ فرنسي لمنع تأميم قناة السويس، تتقدم الهجوم على مصر. وكان تاريخ الافتتاحية 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 .



    خلال أيام من صدور هذه الافتتاحية، تلقى هثرينغتون أول اتصال عبر قنواته الخلفية من مراسله في واشنطن ماكس فريدمان، الذي كانت له صلات خاصة بوزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس. وصعق رئيس التحرير بمحتوى الرسالة التي جاءته، وفيها أن دالاس قد تبلغ من سفيره في لندن، بأن الحكومة البريطانية تستعد لشن الحرب على مصر. انطلاقاً من هذه المعلومة بدأت «الغارديان» محاولة تغطية الاستعدادات السرية للحرب، وقد أدركت أن الولايات المتحدة لن تؤيد فكرةالهجوم على مصر. وحاولت «الغارديان» التحايل في تغطيتها تجنباً للوقوع تحت طائلة القوانين البريطانية التي كانت ـــ وما زالت إلى اليوم ــــ تمنع الصحافة البريطانية من نشر ما تعدّه الحكومة أسراراً عسكرية أو وطنية. وواصل المراسل النشط فريدمان من واشنطن كتابة الرسائل السرية إلى رئيس تحريره، وأهمها رسالة في 10 آب/ أغسطس لخص فيها شعور دالاس مفادها: «هناك استعدادات لعمل عسكري ضد مصر من بريطانيا وفرنسا، وإنه (أي دالاس) يشعر بأنه من الصعب أخلاقياً الدفاع عن هذا العمل الذي لن يتفهمه العالم، والذي سيؤدي إلى تحطيم الأمم المتحدة إذا تم التدخل المسلح... «إنها حالة خطرة جداً جداً» حسب قول دالاس.



    & & & لم يقف إلى صف «الغارديان» في هجومها العنيف على التدخل العسكري ضد مصر سوى «الأوبزرفر». وكانت «الأوبزرفر» صحيفة أسبوعية تصدر صباح كل أحد، تمثل التيارات الليبيرالية في السياسة البريطانية والتوجهات الحرة في الثقافة والفنون، معادية للمحافظين ومتعاطفة مع شعوب المستعمرات. وكانت تمثل الوجه التقدمي لصحافة الأحد مقابل الوجه الآخر المحافظ لـ «الصنداي تايمز». وكان صاحب «الأوبزرفر» ورئيس تحريرها دافيد أستور، ابن أول امرأة (ماري أستور) تدخل مجلس العموم البريطاني في الثلاثينيات، بعدما مُنحت النساء في بريطانيا حق الانتخاب والترشيح. وكانت «الأوبزرفر» مملوكة من شركة عائلية خاصة لآل أستور، قبل أن تباع لعدة جهات ثم تستقر اليوم كجزء من شركة «الغارديان» الجديدة، ووجها المماثل يوم الأحد.

    وانقسمت الصحافة البريطانية إلى فريقين واضحين. فريق مع حكومة إيدن في استعمالها القوة لاستعادة القناة من عبد الناصر، وفريق ضد الحكومة وضد إشعال حرب من أجل القنال. على رأس الفريق الأول كانت «التايمز» ومعها «الإكسبرس» و«الميل» و«السكنتس» و«التلغراف» و«إيفنينغ نيوز» و«إيفنينغ ستاندرد» و«الصنداي تايمز» و«الصنداي اكسبرس». أما الفريق الثاني المعادي لحكومة إيدن، فكان إلى جانب «الغارديان» و«الأوبزرفر»، مؤلفاً من «الميرور» العمالية، «نيوز كرونيكل» الليبيرالية «مورنينغ ستار» الشيوعية، «بيبول» الشعبوية. لكن «المانشستر غارديان» و«الأوبزرفر» وحدهما استمرتا في معارضة التدخل العسكري بلا هوادة طوال فترة الأزمة. وانضمت إليهما فيما بعد «الإيكونوميست»، المجلة الأسبوعية الواسعة النفوذ والواسعة الانتشار اليوم في الولايات المتحدة، في أوضح موقف مباشر ضد الهجوم العسكري البريطاني على مصر، في افتتاحية لها صدرت في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر.



    وكان موقف الجريدتين «الغارديان» و«الأوبزرفر» المعاديتين لسياسة حكومة إيدن قد عرّض الجريدتين لضغوط اقتصادية من أطراف عدة، أدت إلى قطع عدد كبير من الاشتراكات ووقف الحملات الإعلانية فيهما، وعزوف عدد من القرّاء عن شراء الجريدتين. وأصبح الوضع المادي لكل منهما حرجاً، بالرغم من انضمام أعداد من القرّاء الجدد الذين لم يكونوا من زبائنهما.

    كانت المفاجأة في الأوساط الصحافية، هي انقسام صحافة المحافظين. وأهمها مجلة «سبكتاتور» الأسبوعية المحافظة اليمينية، المنافسة لمجلة «نيو ستيتسمان» الأسبوعية العمالية اليسارية، التي كان يرأس تحريرها كينغسلي مارتن، أحد أشهر صحافيي إنكلترا في ذلك الوقت. وكان أيان غيلمور، الذي أصبح وزيراً فيما بعد في حكومة مارغريت تاتشر، صاحب ورئيس تحرير «سبكتاتور»، قد سارع في أول عدد صدر من مطبوعته بعد الهجوم على القناة، إلى كتابة افتتاحية يدين فيها الاعتداء وينذر رئيس الوزراء أنطوني إيدن بأنه سيواجه اتهامات بالخداع لاعتداء جائر، إذا فشل الهجوم العسكري. وكان موقف غيلمور أول خروج عن الصف.

    بعد موقف غيلمور في «سبكتاتور»، أخذ عدد من السياسيين والديبلوماسيين المحافظين من الصف الثاني يستقيلون من الوزارة ومن الخارجية اعتراضاً على مخططات إيدن، بدءاً بوزيري الدولة أنتوني تاتينغ من الخارجية وإدوارد بويل من المالية مروراً بسواهما من أعضاء السلك الديبلوماسي. واتضح أن موقف المحافظين لم يكن متماسكاً وخاصة كريستوفر سومز وزير دولة لشؤون الطيران، والأهم صهر السير ونستون تشرشل زعيم المحافظين ورئيس الحكومة السابق، الذي أبدى شكوكه في موقف إيدن ورفض دعوة عمه تشرشل إلى تأييد إيدن علناً. علماً أن تشرشل نفسه كان له اعتراضات على خطة إيدن. وكان راندولف تشرشل، ابن ونستون، المعادي لإيدن، من كتّاب «سبكتاتور».



    وسط هذه الأجواء المرتبكة داخل المحافظين، الحزب الأكثر تشتتاً، تولى هارولد ماكميلان الحكم، فتحول من أحد الصقور إلى كبير الحمائم، وبدأ عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية، التي قال عنها أيان غيلمور: «إن ثورة العراق في تموز/ يوليو 1958 واغتيال الأسرة المالكة العراقية في بغداد كانا المؤشر الأكيد على انسحاب بريطانيا النهائي من الإمبراطورية. بعدها، وبسبب السويس، جرت عملية التسلم والتسليم بين بريطانيا والولايات المتحدة، لتتربع واشنطن على عرش إمبراطورية جديدة ورثتها، لم تعد لندن قادرة على حملها».



    وظل أيان غيلمور، طوال حياته الصحافية والسياسية، من المحافظين المعتدلين المحسوبين من أصدقاء الشرق الأوسط والمتفهمين لظروفه.



    & & & مقابل «الغارديان» كانت «التايمز» التي أدت، بطريقتها الخاصة، دوراً أساسياً في أزمة السويس. فكان إيدن يجتمع باستمرار مع رئيس تحريرها السير وليم هايلي ويعطيه من المعلومات والأسرار ما لا يعرفه معظم وزرائه. وكان هايلي وجريدته يؤيدان في بداية الأزمة إيدن وسياسته في أزمة السويس، لكنه سرعان ما ابتعد عن إيدن، عندما لم يعد رئيس الحكومة البريطانية يتقبل أي موقفحيادي لا يدعم سياسته مباشرة. وتوقفت اجتماعات الرجلين. وابتعد هايلي عن إيدن، ولم تعد «التايمز» تعبّر أو تدافع عن سياسة «داونينغ ستريت» ومواقفه، وعمَّ الفتور بين الجهتين حتى سقوط إيدن، وكان هذا الفتور من التقاليد «الجنتلمان» بين الصحافة والسياسيين في تلك الأيام، من غير أن تنتقل العلاقة من حالة التأييد إلى حالة العداء السافر.



    وكانت افتتاحيات دافيد أستور في «الأوبزرفر» الأعنف والأقوى ضد الإنذار البريطاني ــــ الفرنسي المشترك لمصر، وضد العمل العسكري، حتى أصبحت مقالاته توزع في التظاهرات التي كانت تنظم في حينه ضد العدوان. في ذلك الوقت، كانت صفحات «الغارديان» و«التايمز» مسرحاً لنقاش مستفيض حول قانونية الموقف البريطاني وحججه في تأميم القناة، وحول شرعية التهديد العسكري بالتدخل. ولم يكن الرأي العام البريطاني قد شهد انقساماً بهذا الشكل منذ أيام أزمة ميونيخ في العام 1938 (التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية)، ولم يكتف المؤيديون لحكومة إيدن والتدخل البريطاني بالضغوط الاقتصادية على «الأوبزرفر» و«الغارديان»، بل أخذوا يقاطعون مراسلي الجريدتين في الاجتماعات والندوات التي كانوا يعقدونها ليمنعوا تغطيتهما، ويتهمونهما «بالخيانة» لأنهما لا تؤيدان «أولادنا بالكاكي» ــــ أي الجيش البريطاني.



    وتصاعد العداء للجريدتين وازداد نفور القرّاء المحافظين منهما، واتُّهمت «الغارديان» علناً بالخيانة و«الأوبزرفر» بالتجديف. وعلى الرغم من المقاطعة الإعلانية ارتفع قليلاً توزيع الجريدتين. لكن الضرر كان على المدى البعيد قد وقع.



    & & &



    هنا حدثت ثلاثة أمور صحافية أدّت دوراً مصيرياً في أزمة السويس:



    1 ـــ إزاء تطور أحداث السويس يوماً بعد يوم، استعانت «الأوبزرفر» بدينغل فوت، المحامي والقانوني الضليع والنائب السابق عن حزب الأحرار في مجلس العموم (وشقيق مايكل فوت، زعيم حزب العمال في سنوات لاحقة والكاتب في صحيفة «تريبيون» اليسارية حينها، وأيضاً شقيق هيوفوت حاكم قبرص ومندوب بريطانيا باسم اللورد كارادون في الأمم المتحدة فيما بعد). وكانت افتتاحية دينغل فوت من أعنف ما كتب في إدانة احتيال سياسة حكومة إيدن وعدم شرعيتها وتواطؤها. وهاج نواب حزب المحافظين في مجلس العموم وماجوا، وأدانوا كاتبها واتهموا الجريدة وصاحبها بالخيانة. ودخلت هذه الافتتاحية، التي كانت سبباً في تقويض حكومة إيدن فيما بعد، تاريخ حكاية السويس.



    2 ـــ كان لــ«الغارديان» مراسل في الشرق الأوسط اسمه جيمس موريس(**) (اشتهر كثيراً فيما بعد) بعث من قبرص رسالة نشرتها الجريدة في صدر صفحتها الأولى في 20 تشرين الثاني/نوفمبر يؤكد فيها أن فرنسا، والطيارين الفرنسيين بالذات، أدّت دوراً أساسياً في التواطؤ مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وروى موريس على لسان الطيارين الفرنسيين الذين التقاهم في مطار القاعدة العسكرية البريطانية في قبرص، كيف كانوا يهاجمون المصريين في سيناء وهم يطيرون فوق الأراضي الإسرائيلية ويرمون المؤن والذخائر للإسرائيليين فوق سيناء. ويقول موريس في رسالته لــ«الغارديان» إن الطيارين الفرنسيين هم الذين كانوا يقصفون بالنابالم، وبدقة متناهية، المركبات والآليات المصرية المحملة بالعتاد والجنود، والتي رآها تحترق في الصحراء. وعزا موريس انتصار إسرائيل في حرب سيناء إلى دور الطيران الفرنسي.



    لكن سرعان ما نفى وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشي ديان ما ذكره موريس، كما نفت وزارتا الدفاع والخارجية لكل من فرنسا وإسرائيل هذه المعلومات. وكانت «الغارديان» أول من أشار علناً وبوضوح إلى التواطؤ البريطاني ـــ الفرنسي مع إسرائيل في الهجوم على مصر. وقد نفاه إيدن ـــ كاذباً ـــ أمام مجلس العموم في 20 كانون الأول/ديسمبر بقوله: «ليس هناك معرفة سابقة بأن إسرائيل ستهاجم مصر».



    3 ـــ الأمر الثالث، والذي جاء نتيجة للفتور بين «التايمز» وإيدن لوقوفها على الحياد، أنها نشرت خبراً هز صدقية إيدن، مفاده أن رئيس الحكومة البريطاني حاول إقناع كل من الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية بإتلاف نسخ الاتفاق المكتوب معها والموقع في «سيفر» بباريس، وينص على تواطؤ الثلاثة في العدوان على مصر، وكيف رفضت كل من باريس وتل أبيب طلب لندن.

    & & &



    يروي أحد مؤرخي الصحافة البريطانية، أن لورنس سكوت، مدير إدارة «المانشستر غارديان» دخل على هثرينغتون، رئيس التحرير، حاملاً أخباراً سيئة عن هبوط التوزيع وغياب الإعلان نتيجة لموقف الجريدة السياسي. وبعدما أعطى مدير الإدارة الكثير من الأرقام عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في الجريدة، التفت إلى رئيس التحرير وقال له: أتمنى أن لا يؤثر هذا كله فيك، فتضطر إلى تغيير سياسة الجريدة. رأيك يجب أن يبقى حراً لتبقى الجريدة مؤثرة وحرة، مهما كان الثمن. القراء يعودون والإعلان يعود. لكن الحرية ستفقدها إلى الأبد إذا فرّطت فيها! &




    الحلقة المقبلة:


    أسرار التواطؤ بين


    بريطانيا وفرنسا وإسرائيل



    هوامش



    (**) جيمس موريس صحافي وكاتب إنكليزي، كان مراسلاً لعدة صحف بريطانية، منها «الغارديان» و«التايمز» في الشرق الأوسط، خلال الخمسينيات والستينيات، وأمضى سنوات عدة في معظم البلدان العربية. له عدّة مؤلفات أهمها كتاب «سوق سلوقيا» الصادر في مطلع الستينيات عن العالم العربي، وثلاثية «وداعاً للأبواق» عن سقوط الأمبراطورية البريطانية. تحول اثر عملية جراحية إلى امرأة في السبعينيات وغيّر اسمه من جيمس إلى جان. وكان قبل ذلك متزوجاً وله أولاد. وألّف عدداً من كتب الرحلات والتاريخ.


    مقتطف من سطور كتابى



    " الوجه الآخر للميدالية، حرب السويس 1956 ،
    أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد"

    بقلم يحى الشاعر

    الطـبعة الثـانية 2006
    طبعة موسعة

    رقم الأيداع 1848 2006
    الترقيم الدولى isbn 977 – 08 – 1245 - 5

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 15, 2024 4:25 pm