من كتاب يحي الشاعر "الوجه الآخر للميدالية" وأسرار حرب السويس 1956
فى أوائل سنة 1953 كلف مجلس قيادة الثورة الدكتور مصطفى الحفناوى رسميا بإنشاء مكتب لشئون قناة السويس يكون تابعا لرئاسة الوزراء، وقد أوضح التكليف أن مهمة المكتب هى إعداد دراسات قانونية هدفها -تصفية شركة قناة السويس- كما يقول الدكتور الحفناوى فى مذكراته. وقد طلب السيد مجدى حسنين، الذى نقل هذا التكليف إلى الدكتور الحفناوي، أن يكون مقر المكتب إما رئاسة مجلس الوزراء أو مبنى مجلس الشيوخ.
شرع الدكتور الحفناوى فى إنشاء المكتب فى مبنى مجلس الشيوخ وكان أول عمل له هو الطلب من رئاسة الوزراء أن تأمر بوضع محفوظات قصر عابدين الخاصة بقناة السويس بما فيها الأوراق التى خلفها الخديو إسماعيل باللغة التركية لترجمتها رسميا، وذلك توطئة لإنشاء دار محفوظات رسمية خاصة بقناة السويس، وقد استجابت رئاسة مجلس الوزراء لطلب الدكتور الحفناوي، طلبت من المهندس محمود يونس، الذى كان يعمل آنذاك حارسا على القصور الملكية ومستشارا فنيا بمجلس الوزراء، أن ينفذ هذا الطلب وقد تولى مكتب مندوب الحكومة لدى شركة قناة السويس الأمر فيما بعد.
بيد أن الدكتور الحفناوى لم يتابع مهام المكتب المذكور، ويبدو أن عبدالناصر قد قرر، كجزء من عملية الخداع التكتيكى للشركة، التضحية بمكتب شئون قناة السويس وبعلاقته بالدكتور الحفناوى مؤقتا، لأنه كان معروفا بأنه العدو الأول للشركة فى مصر. فالدكتور الحفناوى كان يقود بجانب رئاسته لمكتب قناة السويس حركة دعائية واسعة ضد شركة قناة السويس، وأنشأ جريدة خاصة للدعاية ضد الشركة. وقد بلغت قوة الحملة أن كافري، السفير الأمريكى فى القاهرة، اتصل بالمسئولين بالحكومة المصرية ليشكو من الحركة الدعائية التى يقودها الدكتور الحفناوي، وليؤكد أن هذه الحركة تهدد رؤوس الأموال الأجنبية فى مصر، ويطلب باسم حكومته، وضع حد لتلك الحملة. كذلك اتصل شارل رو رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس بالمسئولين، وطلب إنهاء نشاط الدكتور الحفناوي.
يبدو أن خطة عبدالناصر فى التضحية بعلاقته بالدكتور الحفناوى من أجل خداع الشركة نجحت. فبعد التأميم تبين من وثائق الشركة أن أحد مخبريها قد أخطرها أن الحكومة المصرية تجمع الأوراق الخاصة بالشركة من المصالح المختلفة، وأن شيئا ما يجهز ضد الشركة، وقد رد المسئولون بالشركة بأن أية دراسة لن تكون شيئا بجانب الجهود التى بذلها الحفناوي، وأنه قد تم إخماد حركته الدعائية.
بيد أن عبدالناصر ظل يستشير الدكتور الحفناوى فى شئون شركة قناة السويس ويتلقى منه التقارير بصفة غير دورية، ففى 28 يونيو سنة 1954 قدم الدكتور الحفناوى إلى عبدالناصر تقريرا يتضمن تحليلا لمساعى شركة القناة لمد امتيازها بعد سنة 1968، وأوضح فى التقرير أن الشركة تسعى لتشكيل لجنة دولية تتولى الإشراف على القناة بعد انتهاء الامتياز، واقترح مجموعة من الإجراءات الكفيلة بإحباط مساعى الشركة. ويضيف الدكتور الحفناوى أنه كان يعقد لقاءات شخصية مع عبدالناصر فى منزل عبدالناصر بمنشية البكري. وفى منزل محمود عبداللطيف عبدالجواد المستشار بإدارة قضايا الحكومة آنذاك، فيقول إنه فى يوليو سنة 1955 التقى معه فى منزل محمود عبداللطيف تحت ستار حضور حفل أقامه الأخير تكريما لوالد عبدالناصر بمناسبة عودته من الحج. وأن عبدالناصر قد أوضح له أنه رتب هذا اللقاء لكى يتحدث معه فى موضوع قناة السويس، وأنه قد سأله عمن يمول حملته الدعائية ضد شركة قناة السويس، وأنهى الحديث قائلا -سوف أؤممها سنة1960 إن شاء الله، وحتى هذا التاريخ لا تفعل شيئا. وحينما يجيء الوقت المناسب سنجلس معا ونقوم بواجبنا فى هذا الخصوص- وأضاف عبدالناصر -إنك يا مصطفى يا حفناوى تسبب لنا أزمات-، مشيرا بذلك إلى حملته الدعائية ضد الشركة.
وعندما شرع عبدالناصر فى اتخاذ قرار تأميم شركة قناة السويس استدعى الدكتور الحفناوى للتشاور حول القرار، ثم عينه عضوا فى أول مجلس إدارة لهيئة قناة السويس فى يوليو سنة 1956، وبعد ذلك عينه عضوا فى وفد المباحثات الذى تكون فى سنة 1958 برئاسة الدكتور عبدالجليل العمرى للتفاوض مع إدارة الشركة حول التعويضات.
وابتداء من منتصف سنة 1955 كلف عبدالناصر المخابرات الحربية بالحصول على معلومات عن شركة قناة السويس، ففى أغسطس سنة 1955 كلف اللواء طه فتح الدين قائد منطقة القناة وشرق الدلتا، بالحصول على معلومات عن الدخل الحقيقى للشركة. وقد اتضح من تلك المعلومات أن الدخل الحقيقى للشركة يزيد كثيرا على دخلها المعلن.
فى مايو سنة 1956 طلب عبدالناصر من الصاغ فؤاد هلال، قائد مخابرات القناة آنذاك، إعداد تقرير عن الاحتمالات التى ستنشأ إذا تم تأميم قناة السويس، وفى نفس الشهر طلب من ثروت عكاشة بصفته نائبا لمدير المخابرات العامة آنذاك، إعداد دراسات عن شركة قناة السويس.
وقد تم تكليف إدارة الأبحاث بوزارة الخارجية بجمع معلومات عن شركة قناة السويس، وعلاقاتها الدولية، وكانت إدارة الأبحاث بإشراف السفير إبراهيم صبرى تعمل بالتنسيق مع مكتب قناة السويس برئاسة مجلس الوزراء، وقد قامت الإدارة بأبحاث سياسية وقانونية عن شركة قناة السويس.
وكانت وزارة التجارة والصناعة تضم قسما يسمى -مصلحة الشركات-، ويختص هذا القسم بالتعامل مع الشركات المصرية ويتابع أنشطتها. ونظرا لأهمية الشركة العالمية لقناة السويس أنشئ قسم فرعى فى إطار مصلحة الشركات يسمى -إدارة قناة السويس- وكان هذا القسم يتولى متابعة تنفيذ الاتفاقات المعقودة بين الحكومة المصرية والشركة ويقوم بالتفتيش على أنشطتها وكان يرأس هذا القسم برهان سعيد الذى تولى منصب مندوب الحكومة لدى شركة قناة السويس فيما بعد، وقد قام هذا المكتب بالعديد من المهام الرقابية على الشركة، وذلك بالتنسيق مع مكتب مندوب الحكومة، فقد قام بمتابعة اتفاق مصر مع الشركة سنة 1949 بشأن تمصير وظائف الشركة، وأوضح مدى تلاعب الشركة فى تنفيذ الاتفاق، وأعد تقارير عديدة فى هذا الصدد رفعت إلى الأجهزة العليا المختصة. وابتداء من أواخر سنة 1954 طلب عبدالناصر من اللواء أنور الشريف مدير عام إدارة التعبئة بالقوات المسلحة جمع معلومات عن شركة قناة السويس، مع التركيز على امكانياتها الفنية ونوعيات العاملين فيها. على أن يكون ذلك تحت إشراف مكتب قناة السويس برئاسة مجلس الوزراء.
عندما شرعت الإدارة فى جمع المعلومات عن العاملين بالشركة وعن امكانيات ورشها الفنية رفضت الشركة الإدلاء بتلك المعلومات لأنه لا يوجد ما يلزمها. نتيجة لذلك تم إصدار قانون التعبئة سنة 1955 والذى يلزم كل الشركات العاملة فى مصر بإعطاء إدارة التعبئة المعلومات التى تطلبها، وكان الهدف من هذا القانون فى الواقع موجها إلى شركة قناة السويس، كما يقول على صبرى وفيما بعد تم إنشاء جهاز التعبئة العامة والإحصاء تحت ستار تجميع الاحصاءات العامة للدولة لكن محمد فائق يقول إن الهدف الحقيقى منه كان جمع معلومات عن شركة قناة السويس. نتيجة لذلك قامت إدارة التعبئة بجمع معلومات كاملة عن القدرات الفنية لشركة قناة السويس، والعاملين فيها بحيث توفر لدى مكتب قناة السويس بالرئاسة معلومات كاملة عن الورش الفنية للشركة.
وقد لخصت إدارة التعبئة نتائج أعمالها فى شكل ملف بعنوان -مذكرة عن الشركة العالمية لقناة السويس-، وكانت المذكرة تتكون من 55 صفحة موقعة من اللواء الشريف، وأعدها الصاغ البحرى قاسم سلطان بناء على بيانات مشروع الحصر الصناعى الذى أجرته إدارة التعبئة والمعاينات التى قام بها الضابط المذكور، وقد أوضحت المذكرة أن الهدف من إعدادها هو الاستعداد لتسلم المرفق ومعداته بحالة جيدة وإدارته بكفاءة تامة بواسطة الحكومة. واستعرضت المذكرة كل أقسام الشركة وأماكنها الحساسة، وأوضحت أن الشركة تتجه إلى استهلاك معداتها قبل انتهاء عقد الامتياز سنة 1968 وإلى الإضرار بمصالح مصر عن طريق تخفيض رسوم العبور. وأشارت المذكرة إلى ضرورة التحضير لتسلم المرفق بحالة جيدة، وفى حالة رفض الشركة، فإنه يجب الاستيلاء على المرفق ومعداته وتشغيله بواسطة إدارة مصرية وحددت المذكرة الأماكن المهمة التى يجب أن تتجه الجهود إلى وضع اليد عليها بسرعة. ومن الجدير بالذكر أن هذه المذكرة هى التى سلمها عبدالناصر إلى المهندس محمود يونس عندما أخطره فى 24 يوليو بعزمه على تأميم الشركة وكلفه بالتنفيذ، وأن المهندس يونس قد استند إليها إلى حد كبير فى تنفيذ عملية التأميم.
..............."
د. يحي ألشاعر